في عين العاصفة الأميركية

28

علي قاسم

تسهب مراكز البحوث الأميركية في الحديث عن تعديلات جوهرية في القراءة الأميركية لموقعها ودورها على المسرح الدولي، وتحديداً بعد التجربة المثيرة للجدل في إدارة الخراب والدمار في المنطقة والامتدادات المرشحة خارجها، وعليه تبدو السياسات الأميركية أمام منعطف جديد،

لا يكتفي بتعديل الأسس المعتمدة في مقارباتها فيما يخص المنطقة، والتي تتبنى سياسة ملء الفراغات أساساً ومنهجاً لمراجعة فعلية تأخذ المعطيات الناتجة، باعتبار أنَّ الحسابات والمعادلات لم تكن على مستوى ما هو مطلوب، نتيجة الاعتماد على أدوات تحتاج إلى الكثير كي تنضج، أو على الأقل كي تكون بمستوى التوكيل الأميركي، وحتى التفويض أحياناً.‏

اللافت أن ذلك -حتى اللحظة- لم يتم تظهيره على مستوى القرارات السياسية، ولم يتم الأخذ به على مستوى المقاربات المعتمدة في التعاطي المباشر مع القضايا الكبرى التي تشغل اهتمام الإدارة الأميركية، وجلُّ ما تعمل عليه هو الإبقاء على ما كان سائداً، ريثما تصبح المناخات السياسية ناضجة لاستيعاب المتغيرات، وقادرة على استدراك عيوب المرحلة الماضية، ومهيَّأة لسد ما قد يظهر من ثغرات غير محسوبة، وخصوصاً أنَّ التعاطي مع الأسس الجديدة يحتاج إلى تعديل في استخدام الأدوات والمهام المعدلة بحكم الأمر الواقع في المرحلة القادمة لكثير من الدول ذات الطابع الوظيفي.‏

فقد أبقت على عوامل الضغط القائمة في المنطقة، وتحديداً ما يتعلق منها بنقاط الاشتباك المشتعلة، وفق الأسس ذاتها، وتركت مقارباتها القائمة على أساس المشاغلة السياسية عند المستوى ذاته من المشاغبة، حيث نجد أنها تكمل حلقة تعميم الفوضى والخراب في المنطقة على الرتم ذاته، بل باشرت في نقل نقاط الاشتباك نحو جبهات إضافية، وكانت محاولات التأثير في الوضع الإيراني ضمن حلقة الإشعال ذاتها المعتمدة في الإستراتيجية، على الرغم من ملامح الفشل التي تتضح وتنكشف للعلن، حيث استهداف إيران يمثل مشهداً عبثياً من الماضي الأميركي وبقايا الصقيع العربي، وممهوراً بصفقات التواطؤ الإقليمي والبعض العربي.‏

الواضح أنَّ المقاربة الأميركية يشوبها الكثير من نقاط الغموض، لكنها مقارنة بما يتم تسريبه من هوامش مسموح بها في سياق الخلط بين الرؤى الإستراتيجية وبين السياسات الآنية، يمكن فهمها رغم أنها لا تكفي لتفسير كل ما يحيط بالسياسات الأميركية في الحقبة «الترامبية» المتخمة بالأحجيات والألغاز العصيَّة على الحل، وهو ما يتسق مع ما يجري من سياسة تصنيع المعضلات والمشكلات، وإيجاد الخلافات بين الأدوات والحلفاء، بحيث يكون مجرد التفكير في فهم الأسباب مغامرة لا يمكن خوض غمارها تحت أي دافع للبحث في الأسباب والعوامل.‏

المثير في الأمر أنَّ استجابة الأدوات والحلفاء للإستراتيجية الأميركية محكومة بحالات استعصاء، تتراكم زمنياً ومعرفياً، ولم تبدِ تلك الأدوات أيَّ تغيير في أسلوب تعاطيها مع متطلبات المقاربة الأميركية، باستثناء تركيا التي وجدت في تلك المراجعة فرصة سانحة للاستفراد وللاستحواذ بالتفويض الأميركي، مع الأخذ بالحسبان مقتضيات المهمة في طورها الجديد، حين بادرت إلى إعادة تشكيل مواقفها انطلاقاً من إحضار البدائل، حيث أوعزت لمرتزقتها من جبهة النصرة ومشتقاتها لتكون نواة وركيزة للإدارة الأميركية للتعويض بعد أفول داعش.‏

وعلى هذا الأساس كان الإشغال الأميركي على جبهة إيران مجرد مرحلة انتقالية، أو مقدمة للإستراتيجية الأميركية بحلتها الجديدة، والتي ستكون في سياق المقاربة الهادفة إلى ما هو أبعد من مسألة ملء الفراغات، لتصل حدود البحث عن مفردات تتفق مع الصيغ الأميركية لحروبها القادمة، بما فيها البحث عن الجبهات والتجريب في الصيغ المتاحة والممكنة لمقاربة تتسق في حدّها الأدنى مع الشكل الجديد، وهذا يفسر إلى حدٍّ بعيد التهافت الأميركي والمحاولات المحمومة لاستهدف إيران سياسياً وإعلامياً.. وصولاً إلى المنصات الأممية رغم إدراكها عبثية المحاولة.‏

ما يجري يُراد أن يؤخذ من سياقه العام، وأن تكون سياسة وضع العصي في الحلول التي تلوح في الأفق لبعض القضايا، وفي الحدّ الأدنى العمل على تأخير التعاطي مع الواقع الجديد بعد هزيمة داعش، واستحالة الرهان أو التعويل على النصرة ومشتقاتها بتسمياتها المختلفة التي لن يكون مصيرها أفضل حالاً من مستنسخاتها، بما فيها داعش، لتبقى المنطقة في عين العاصفة الأميركية، وفي قلب مخططاتها حتى إشعار آخر.‏

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.